• حوار: جني عثمان – فرحة محمد
منذ عام 2014، بدأت مشروعًا صغيرًا على الإنترنت، كان في البداية محاولة فردية لفهم العالم، وتيسيره، ومشاركته مع الآخرين. لم يكن هناك فريق، ولا معدات متطورة، فقط أنا… شاب اسمه أحمد محمد الغندور، شغوف بالعلم، أكتب، وأمثل، وأخرج، وأحرر الفيديو بنفسي، مدفوعًا بإيمان عميق بأن المعرفة حين تُقدَّم بشكل سهل ومحبب، تصبح ملكًا للجميع.
هكذا بدأ برنامج “الدحيح” على يوتيوب، من غرفة صغيرة، بإمكانات محدودة، لكن بشغف كبير. استمرّ هذا الجهد الفردي حتى عام 2017، ثم انضم إليّ محمد حسام ومحمد رشيدي، وأصبحا لاحقًا منتجي البرنامج، وبدأنا مرحلة جديدة من التنظيم والتوسع، ومع الوقت انضم للفريق عناصر متميزة، منهم سميرة، وهي كوميديانه ومهتمة بالأنيميشن والبحث البصري، وتعمل معنا كرئيس تحرير منذ أكثر من ست سنوات.
العمل الجماعي غيّر كل شيء. أصبحنا نعمل بتناغمٍ لافت، حتى بدا وكأن كل فرد يعرف كيف يفكر الآخر. النقاشات بيننا تحوّلت إلى مختبر للأفكار، نصقل فيه الحلقات، نبنيها بالمعرفة المشتركة، وبحماس لا يخفت.
في قلب هذا المشروع، كانت دائمًا فكرة “شَعبنة العلوم”، أي تيسيرها وتقديمها بشكل ممتع، الهدف لم يكن تعليميًا بالمعنى التقليدي، بل تثقيفيًا، لإشعال شرارة الفضول داخل المشاهد. كنت دائمًا أرى أن العلم يمكن أن يُقدَّم كقصة، لا كمجموعة من الحقائق الجافة. هذا الأسلوب تأثرت به كثيرًا منذ قرأت في مراهقتي كتاب “إمبراطور الأمراض” لسيد هارتا موخيرجي، والذي تناول تاريخ مرض السرطان. هذا الكتاب لم يكن مجرد مصدر إلهام، بل كان نقطة تحوّل في حياتي، وغرس داخلي شغفًا بالعلم لم ينطفئ.
حين بدأت دراسة الأحياء في الجامعة الأمريكية، ازداد اهتمامي بأسلوب التعلم الممتع. كنت دائمًا أفكر: لماذا لا نتعلم من خلال الحكاية؟ ولهذا اعتمدنا في “الدحيح” على تقنية “السرد القصصي”، أو الـ Storytelling، فهي الطريقة الأقدر على إيصال المعلومة العلمية بشكل يبقي المشاهد متفاعلاً، منسجمًا، وربما متأملًا. كثير من المعلمين الآن يعتمدون هذا الأسلوب، خاصة في منصات التعليم الإلكتروني، لأن الطالب ببساطة لا يتحمل مادة علمية طويلة إلا إذا قُدمت له كقصة.
ومع التحولات الرقمية بعد جائحة كورونا، ظهر شكل جديد من المحتوى: الريلز والمقاطع القصيرة. ورغم نجاح هذا النوع، شعرت أن “الدحيح” لا يمكن اختزاله في دقيقة أو اثنتين. كل حلقة كانت تُبنى على بحث طويل، وكتابة دقيقة تستغرق من ثلاثة إلى أربعة أسابيع، ثم يوم تصوير، ثم مونتاج، وتصميم جرافيك، ومراجعة علمية دقيقة. كل حلقة مدتها 45 دقيقة، لكن خلفها ساعات وساعات من العمل.
لاحظت مع الوقت تغيّر جمهور البرنامج. في البداية، كانت الإحصائيات تشير إلى أن 94% من المشاهدين من الذكور. ولكن بعد انضمام كاتبات إلى فريق العمل، وبدئنا تناول موضوعات تمس علم النفس والعلاقات والجانب الإنساني، ارتفعت نسبة المشاهدات من الفئة النسائية. توسّع نطاق الاهتمام، لكننا حافظنا على الهوية العلمية للبرنامج.
كنت أعلم دائمًا أن الاستمرارية لم تكن ممكنة لولا إيماني العميق بالفكرة. لم أكن أصنع محتوى من أجل المحتوى، بل كنت أقدم ما كنت أبحث عنه يومًا ما: محتوى مبني على المعرفة، يُشرح ببساطة، ويمنح الناس وعيًا بدون تعقيد أو مبالغة. أحيانًا، تعليق صغير كان كفيلًا أن ينعش الفكرة مجددًا. كأن يكتب أحدهم: “كنت مستنيك تشرح الموضوع ده عشان أفهمه”. مثل هذه الرسائل لم تكن مجرد إشادة، بل كانت مسئولية.
واليوم، نبدأ مرحلة جديدة. مشروع يستهدف الأطفال، بالتعاون مع قناة “سبيستون”، في عمل كرتوني بعنوان “آخر دحيح على الأرض”. نُقدِّم فيه العلم بطريقة قصصية، جذابة، باللغة العربية، بمشاركة أحمد مجدي رجب وعبد الرحمن جاويش في الكتابة. هدفنا أن نخاطب الجيل القادم من سن مبكرة، وأن نفتح أمامهم أبواب المعرفة وهم لا يزالون في عمر التكوين.
وأنا مؤمن دائمًا بأن الفضول هو البداية. المراهق، مثل الطفل، في مرحلة استكشاف. لكنه هذه المرة يستكشف العالم الحقيقي، الخارج عن حدود البيت والمدرسة. وهنا، تصبح الأسرة هي البوصلة، والإرشاد هو الأمان، لكي ينمو هذا الفضول في الاتجاه الصحيح.
