الطب نفسي: المراهقون فريسة لظاهرة انخفاض التركيز الاجتماعي
• تحقيق: مريم عمرو – سلمى على – جنى عثمان
يعاني المراهقون حول العالم من ظاهرة «انخفاض التركيز الجماعي»، وهي عبارة عن تشتت الانتباه وضعف التركيز الناتج عن كثرة المشتتات، والذي تسببت فيه تطبيقات التواصل الاجتماعى، وتفاقمت الأزمة مع ظهور مقاطع الفيديو القصيرة «الريلز»، وبحسب دراسات بحثية انخفضت فترة الانتباه عند البشر إلى 3 ثوانٍ مقارنةً بـ 12 ثانية عام 2000.
وكشفت دراسة حديثة أُجريت بقسم علم النفس في جامعة “تورنتو” الكندية، عن أن تغير السلوك عبر الوسائط الرقمية أدى إلى زيادة شعور الإنسان بالملل، وتغيرت الحالة المزاجية للمراهقين، وهو ما أكدته دراسة منشورة في سبتمبر 2024، بعنوان “تأثير مقاطع الفيديو القصيرة ومقاطع الفيديو عبر وسائل التواصل الاجتماعي على تقدير الذات والسلوك والصحة النفسية لدى المراهقين” أفادت أن مشاهدة “الريلز” تساهم في انخفاض تقدير الذات، ومشاكل صورة الجسم، و السلوكيات الإدمانية.
وترجع فكرة مقطع الفيديو القصيرة لعام 2016، حين أطلقت الصين تطبيق “تيك توك” لتصوير مقاطع الفيديو المُركبة على أصوات أخرى بشكل قصير، وسرعان ما لقي رواجًا عالميًا، وبعدها بعام واحد وصل عدد مستخدمي التطبيق إلى 132 مليون مستخدم، وأصبح 850 مليون مستخدم في عام 2020.
النجاح الذي حققته مقاطع الفيديو القصيرة، دفع منصات أخرى إلى إضافتها بها مثل “يوتيوب” وتطبيقات شركة “ميتا” فيسبوك، وإنستجرام، لكن الفريسة لهذه المقاطع كان الشباب والمراهقون.
يروي أحد المراهقين تجربته في الضرر الذي لحق به جراء مشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة، كريم محمد جعفر، وقال الطالب بالصف الثالث الثانوى شعبة علمى رياضة بمدرسة الألفية الثالثة التابعة لإدارة البساتين صاحب الـ 17 عامًا: إن المحتوى السريع أثر عليه في العديد من الأمور، موضحًا: “وقتي يضيع أثناء مشاهدة الريلز، ابدأ بمشاهدة فيديو واحد ثم أُفاجأ بمرور ساعات من دون أن أشعر، وأثر ذلك على تركيزي ودراستي تنظيمي لوقتي، وتسببت في إصابتي بالأرق ومشاكل في النوم”.

وعلى حد قوله، لاحظ أنه ينسحب تدريجيًا من المجتمع، وأصبح يفضل العزلة، وتصاعدت المشاكل والخلافات مع والدته بسبب هذه التغيرات التي طرأت عليه، لكن والدته حنان محمود لم تيأس ونجحت في محاولة تخليصه من إدمان “الريلز”.
وقالت: “عانى كريم من مشاكل في التركيز والقدرة على استيعاب الأمور التي تحتاج إلى الإدراك والفهم، خاصة أنه يدرس مواد مثل الكيمياء والرياضيات، ولاحظت أنه يستغرق وقتًا طويلًا في التفكير أو الاستيعاب على غير العادة”.
وعن رحلة مُعافاته، أوضحت: “لم أتأخر في التكلم معه لعلاج ما يمر به، ومن أهم الحلول التي استخدمتها هي تشجيعه على ممارسة كرة القدم، فالمجهود البدني أعاده إلى الحياة الواقعية التي يتفاعل فيها مع الآخرين وتجاوب معهم، وتناقص تدريجيًا إدمانه على الريلز والمحتوى السريع، وتحسنت سلوكياته بشكل ملحوظ”.
لم تنجح والدة كريم في هذه المهمة وحدها، بل بمساعدة الأخصائية الاجتماعية بمدرسة كريم الأستاذة / مها عبد الرحمن، وروت كواليس تجربتها، قائلةً: “تكمن صعوبة الأمر في أن الريلز أنشأت لـ “كريم” واقعًا ليس حقيقيًا، ورسمت له صورة معينة مثالية جعلته ينسى كيف يتعامل مع واقعه الفعلي، وكما يمرر الريلز سريعًا بعد 15 ثانية، كان يمرر مشاكله ومسئولياته ويتخطاها كأنها لم تكن”.
وأوضحت أن الحل كان في ممارسته شيئًا آخر يعود به إلى الواقع، لذا اقترحنا فكرة ممارسة كرة القدم أو أي رياضة أخرى بشكل عام لرفع غمامة الريلز من على عينيه.
واستكملت: “الحل ليس في معالجة الأمور بعنف أو سحب الهاتف وإرغام المراهق على ممارسة أمور جدية، بل بانسحابه تدريجيًا وإيجاد بدائل يحبها، ومساعدته على اكتشاف زوايا أخرى ممتعة في الحياة”.
حال “كريم” ليس كحال كل من في عمره، إذ تعاملت الطالبة ملك عرابي منذ اليوم الأول مع الريلز بذكاء، وأوضحت: “لا تعد مقاطع الريلز المنتشرة عبر مواقع السوشيال ميديا مثل فيسبوك و إنستجرام من اهتماماتي، ولا أقضي فيها الكثير من الوقت، وعندما أتصفح هذه التطبيقات في أوقات فراغي لا أشاهد أكثر من مقطعين أو ثلاثة فقط”.
وتساءلت: “كيف يقضي البعض وقتًا طويلاً في مشاهدة هذه المقاطع القصيرة؟”، متابعةً: “انشغالي بالمذاكرة في الثانوية العامة ساعدني في ألا أدمن استخدام السوشيال ميديا، وعندما أحتاج وقتًا للراحة أفضل أن أخرج وأجلس مع أصدقائي فى الأماكن العامة عن التواصل معهم في التليفون أو الواتساب أو الذهاب إلى أقاربي أو ممارسة أي هواية أو مشاهدة فيلم طويل”.
تأثير نفسي
يقع الكثير من المراهقين فريسةً لظاهرة «انخفاض التركيز الجماعي» والإصابة بتشتت الانتباه، وفي ضوء هذه الدراسات، علق الدكتور محمد السيد رمضان، أستاذ الطب النفسي بجامعة الأزهر، على الآثار النفسية والعقلية لمشاهدة الريلز على المراهقين.
وقال في تصريحات خاصة: “تؤثر مواقع التواصل الاجتماعي، ومشاهدة الريلز على الصحة العقلية والنفسية على المراهق بشكل خطير؛ لأنها قد تعرضه لمخاطر الوسواس أو الإدمان، ويمكن ملاحظة تأثيرها على المراهق كمرض إذا تسببت في خلل وظيفي أو اجتماعي”.
واستكمل حديثه: “يتمثل الخلل الوظيفي في تأثير مشاهدة هذه المقاطع على عقل المراهق الطالب، ويظهر التأثير من خلال انخفاض معدل درجاته و استيعابه للمادة العلمية، أما الخلل الاجتماعي فيتمثل في انعزال المراهق عن أسرته، وتجنبه الجلوس مع أصدقائه، وعدم مشاركتهم في أي أنشطة، وهناك أيضًا مشكلات مرضية يمكن أن تصيبهم، مثل الإصابة بزيادة الكهرباء على المخ والتي قد تؤدي إلى نوبات صرع متتالية، كذلك الإصابة بانزلاق غضروفي في منطقة الرقبة”.
وتابع أستاذ الطب النفسي: “هناك مراهق لا يتأثر بالمقاطع القصيرة، وهناك آخر يتأثر، بل يصل إلى حد الإدمان، ويظل ذهنه وتركيزه مع هذه الفيديوهات حتى بعد إغلاق الهاتف، وتؤدي هذه المقاطع إلى ضياع الوقت بشكل مباشر، ويقع المراهق ضحية وفريسة للندم والشعور بالذنب وتأنيب الضمير؛ بسبب تأثيره في حق نفسه والآخرين، مما يقوده إلى حالة من القلق والتوتر النفسي الدائم، ويمكن أن يصل إلى حد الاكتئاب”.
وتطرق إلى الحديث عن طبيعة المحتوى نفسه، وقال: “محتوى الريلز قد يكون غير لائق أو عنيفًا أو غريبًا عن عادات المراهق ويأخذه إلى الإلحاد أو الشخصية شبه الانفصامية، ومن الممكن تورط المراهق في مشاهدته ثم الشعور بعدها بالذنب والندم الشديد”.
وعلى حد قوله ، تتكون شخصية المراهق من خلال العديد من العوامل مثل ظروف المعيشة والبيئة، وأساليب التربية وغيرها، وعلى سبيل المثال الشخصية الهستيرية سريعة التأثر بالأفكار التي تتعرض لها، وسريعة الإيحاء، ونشاهد هذا في الفيديوهات التي تظهر لبعض المراهقين، و تحثهم على قتل الآخرين أو الانتحار أو إيذاء أنفسهم في شكل تحديات وألعاب.
واختتم رمضان حديثه، بالنصح بمشاهدة المراهقين للمحتوى التعليمي أو الترفيهي أو التثقيفي غير الضار، مقدمًا نصيحته لأولياء الأمور بمتابعة المحتوى الذي يشاهده أبناؤهم، وعدم منعهم من التواجد على السوشيال ميديا لأن “الممنوع مرغوب”، لافتًا إلى أن استخدام الهاتف لابد أن يكون ضمن رقابة وتنظيم للوقت، وضرورة مشاركة الأسرة في الأعمال الجماعية مثل الشطرنج أو تنس الطاولة، وتخصيص وقت للمشاركة في الأعمال التطوعية أو الخيرية.
نفق مظلم
“تأثير الريلز يقتصر على آلية استخدام المراهق من النفع للضرر”، هذا كان رأي الدكتورة سامية عبد الرؤوف، لايف كوتش معتمدة من جامعة عين شمس في مجال الكوتشينج والعلاج بالطاقة الحيوية وعلم النفس الإكلينيكي، خلال حديثها عن تأثير الريلز على سلوك المراهقين.
وقالت: “مقاطع الريلز أشبه بالنفق الذي تم حفره خلال ساحة الإنترنت، لكن للأسف، هذا النفق تم حفره من دون وضع علامات استرشادية أو كشافات إنارة، ومن المؤسف دخول المراهق هذا النفق بإرادة تامة لأن الريلز مدتها قصيرة ومثيرة للمشاهد، ومن ثم تكون جاذبة لطبيعة المراهق العمرية الذي ينجرف وراء المشاعر”.
واستكملت حديثها: بأن “دراسات عالمية عديدة تضمنت عينات عشوائية لمراهقين يدخلون هذا النفق من دون وعي أو مرشد، وكشفت عن أن شريحة من المراهقين أثرت عليهم الريلز بشكل سلبي، وبعضهم أصيب بإدمان المشاهدة وضعف في التركيز مع غياب التخطيط والعمل على تحقيق مهماتهم الأساسية، ومن ثم عاد هذا المراهق بالعشوائية في حياته”.
وكشفت عن تأثير الريلز موضحة: “تؤدي مشاهدة مقاطع الريلز إلى حالة من التمرد، وعدم الرضا عند المراهق بسبب إصابته بزخم الأفكار والمغريات؛ لكثرة ما يشاهده من ترفيه يخلق تحديات مع نفسه، ومع أسرته والمجتمع المحيط به للحصول على ما يشاهده من مغريات، كذلك يتأثر بمتابعة شخص مشهور، لكن قد يتأثر ويشعر بالإخفاق المستمر، مما قد يصيبه بالاكتئاب أو القلق المستمر، وعلى أرض الواقع تعاملت مع مراهق مصاب بأفكار وميول انتحارية، وكان هذا مؤشر خطير”.
وتابعت: أن الجانب السلبي يظهر في عدة جوانب للمراهقين مثل تدني السلوك، والانحراف في الأخلاق والتنمر؛ مما يرفع من معدل العنف بينهم، فضلاً عن تأثيرات غياب الوعي وعدم الرقابة من الأهل.
سلوك معتدل
وأضافت لايف كوتش: “سرعة وصول مقاطع الريلز إلى المراهقين وانجذابهم لها تأثير إيجابي أحيانًا، منها أنها عملت على تطور القيمة الاجتماعية لدى المراهقين، وأصبح لديهم زيادة في المعرفة الدينية والأخلاقية والعلمية والعملية، والذي أدى بشكل إيجابي وسريع لرفع وعيهم”.
وعلى حد قولها، بسبب وعي الاستخدام لدى البعض، لاحظنا نتاجًا من مؤثرين في المجتمع بشكل إيجابي، وحصل الكثير من المراهقين والشباب على جوائز مالية وتشجيعية من الدولة ومن رجال الأعمال؛ لتنفيذ مشروعات مهمة، إضافة إلى استغلال هذه المقاطع للدخول في المسابقات الداخلية والدولية، وحصل العديد منهم على جوائز تقديرية في مجال الأدب والشعر واللغة العربية والقرآن الكريم والعلوم والأبحاث.
وهناك جانب إيجابي آخر لـ الريلز، يكمن في تعديل السلوك والصورة الذهنية، وعلى سبيل المثال إذا أردتَ تحفيز المراهق على بناء عادات صحية جديدة، قد يتم ذلك من خلال متابعة محتوى عن العادات الصحية الإيجابية، وإبراز فوائدها له مثل صفحات أطباء التغذية ومدربي الرياضة.
وشرحت آلية استغلال الإيجابيات وتجنب السلبيات من آثار الريلز، عبر عدد من النصائح، مثل المشاركة في أعمال المنزل، وتحجيم وقت الأجهزة بوضع إستراتيجية أسرية صارمة، وعمل الأسرة على بناء شخصية المراهق، وتشجيع المراهق على العمل المبكر والكسب من مشروع، وتشجيعهم على تعلم تقنيات التكنولوجيا الحديثة، والتشجيع على الرحلات والفعاليات الاجتماعية، وأخيرًا تعزيز مواهب المراهقين الحقيقية.
وألقت المسئولية على عاتق الأسرة، قائلةً: “تعزيز الوعي عند المراهق من مخاطر الانشغال بمواقع التواصل الاجتماعي، وهو دور ولي الأمر، وإلا سنرى – مستقبلاً – أجسادًا كبيرة بعقول أضعف من الأطفال”.
ونصحت بتوعية المراهقين بمدى خطورة الأمراض النفسية، وإدمان الريلز، تشجيعهم على حضور ندوات للتوعية بمخاطر إدمان مواقع التواصل الاجتماعي، وطرح مستمر للأعمال الدرامية التي تعرض خطورة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على الشباب، والتوعية بمخاطر هدر الوقت.
مخاطر صحية
لا تقتصر مخاطر إدمان مشاهدة “الريلز” على صحة المراهقين النفسية فقط، بل تؤثر على الصحة الجسدية أيضًا، وفي هذا الصدد، قالت الدكتورة سامية عبد العزيز، مدرس طب وجراحة عيون في جامعة عين شمس: إن “هناك تأثيرات واضحة على صحة العينين نتيجة الاستخدام المستمر للهواتف بما في ذلك الريلز”.

وأضافت: “يعاني المراهقون الذين يقضون وقتًا طويلًا في مشاهدة الريلز من إجهاد العين الرقمي، وهو مصطلح يُطلق على الطلب المستمر على العضلات الهدبية للعين، ويمكن أن يؤدي إلى التعب البصري والإجهاد الذي يظهر في شكل جفاف العين، وآلام الرأس، وضبابية الرؤية بسبب تركيز العينين لفترات طويلة على الشاشة من دون فترات راحة كافية”.
وأكدت: “من الضروري اتباع المراهقين قاعدة الـ 20 – 20 – 20: أي أن يأخذوا راحة كل 20 دقيقة لمدة 20 ثانية، ينظرون خلالها إلى شيء على بُعد 20 قدمًا لتخفيف الضغط على العين”.
وتابعت: “تزايدت أعداد المرضى من أعمار 12 عامًا إلى 19 عامًا بسبب الأحداث التي وقعت الأعوام الماضية، تحديدًا منذ بداية جائحة فيروس كورونا، والانتقال للتعليم عن بُعد من خلال المنصات الرقمية، وزيادة الاستخدام لوسائل التواصل الاجتماعي، والتقليل من الأنشطة الخارجية، وأغلبهم يعانون من نفس الأمراض كحساسية العين أو الجفاف أو التشويش البصري مع عدم التركيز”.
وأرجعت سبب هذه الأمراض إلى سيطرة الإشباع الفوري والمباشر الذي توفره الريلز، والذي أضعف قدرة العقل على استيعاب أي شيء يتعدى الـ 30 ثانية، وسلطت الضوء على أهمية التعرض للريلز بوعي واعتدال مع تحديد وقت لاستخدام الهواتف والأجهزة، وقالت: “يجب على الأسرة تشجيع المراهقين على أخذ فترات راحة من الأجهزة الرقمية؛ لمساعدة العينين على الاسترخاء والحد من الإجهاد”. فى النهاية فالعالم الذي نعيش فيه اليوم أصبحت هناك أشياء لا تقل خطورتها على ابنائنا عن المواد المخدرة مثلما أصبحت “الريلز” من أبرز أنواع المحتوى السريع على وسائل التواصل الاجتماعي التي تهيمن على حياة المراهقين اليوم ، حيث ووهمهم أنهم يستطيعون التعبير عن أنفسهم بشكل سريع وجذاب ولكن واقعها هو خداعهم وسرقة أوقاتهم لصالح آخرين يستفيدون من هم من مشاهدتهم لهذا النوع من المحتوى ،
فهل سيتفاقم خطر الريلز على المراهقين أم سنسطيع السيطرة عليه ام ستظهر تقنية جديدة تكون أكثر خطورة دون أن نشعر بها ؟
