عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان: مواجهة التنمر تبدأ بالاعتراف به كجريمة
• تحقيق: فرحة محمد – جني وليد – أنس عاصم
لم يعد التنمر مجرد مشادة لفظية بين زملاء المدرسة، بل أصبح ظاهرة متفاقمة تُلقي بظلالها على الصحة النفسية والنمو الاجتماعي للأطفال والمراهقين، ولم يعد حكرًا على جدران الفصول الدراسية أو ساحات المدارس، بل امتد إلى الفضاء الإلكتروني، وتسلل إلى الهواتف المحمولة، ليصطاد ضحاياه خلف شاشات تبدو آمنة.
على غرار هذا، يوضح الدكتور فتحي الشرقاوي، أستاذ علم النفس السياسي بجامعة عين شمس، أن التنمر سلوك عدواني متكرر يهدف إلى إيذاء فرد أو مجموعة يشعر المتنمر تجاههم بتفوق وهمي.
ويؤكد أن خطورته تكمن في تعدد أشكاله، فهو لا يقتصر على الكلمات الجارحة، بل يمتد ليشمل السخرية، والإقصاء الاجتماعي، والتحقير من القدرات، بل وأحيانًا الاعتداء الجسدي الصريح.

خطر صامت
ويضيف “الشرقاوي”، أن للتنمر صورًا متعددة، منها: “اللفظي، الجسدي، الاجتماعي، الجنسي، والإلكتروني”، مشيرًا إلى أن كل نوع منها يترك أثرًا نفسيًا قد يتفاوت في حدّته، لكنها جميعًا تهدد توازن الطفل النفسي.
كما يرجع ظهور هذا السلوك إلى اختلالات في البيئة الأسرية، مثل: غياب الحوار، والعنف المنزلي، أو حتى القدوة السلبية.
من جانبه، يؤكد الدكتور عمرو يسري، استشاري الطب النفسي والمدير التنفيذي لمستشفى “الوعي الجديد”، أن التنمر أحد الأسباب الرئيسة في إصابة الأطفال والمراهقين باضطرابات نفسية لاحقة. تشمل هذه الأمراض: الاكتئاب، والقلق، واضطرابات الأكل، والانسحاب الاجتماعي.

ويرى أن التأخر في التدخل العلاجي يزيد من ترسيخ تلك المشكلات، مما يؤثر على العلاقات الاجتماعية والنجاح المهني والأسري في المستقبل.
أما التنمر الإلكتروني، فرغم انتشاره في الخفاء، لكنه أكثر ضراوة، بحسب ما يؤكده الدكتور نور أسامة، استشاري تعديل السلوك وعضو المجلس القومي للأمومة والطفولة، الذي يعتبره “أخطر أشكال التنمر الحديثة”.

ويوضح أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى ساحات مفتوحة للإيذاء النفسي، من خلال نشر الصور دون إذن، وإطلاق الشائعات، والابتزاز العاطفي أو المادي، وهي كلها أشكال يصعب تتبعها أو السيطرة عليها بالوسائل التقليدية.
ألم وأمل مشترك
وراء كل نظرة خافتة، أو ابتسامة مترددة، قصة قد لا تُروى بسهولة، لكن في مواجهة التنمر، لا يكون الصمت خيارًا دائمًا، من بين هذه القصص ما تعرض له “كريم”، ذو الـ 16 عامًا، الذي بدأ عامه الدراسي الجديد في بيئة لم ترحمه.
قال: “كنت الطالب الجديد، وأتحدث بلكنة مختلفة قليلًا، فصرت مادة للتهكم، قلدوا صوتي، وصوروني خفية ونشروا الفيديوهات”، وأكمل: “شعرت بالإهانة والخذلان، وحتى بعد أن انتقلت إلى مدرسة جديدة، لم يغادرني الخوف، لم أعد أثق في أحد، ولم أستطع تكوين صداقات، حتى تحدثت أخيرًا مع أخصائي نفسي، وقال لي: “أنت لست ضعيفًا، بل متأذٍ”، كانت تلك لحظة البداية، حين قررت أن أتكلم بدلًا من أن أختبئ”.
أما قصة “ملك”، ذات الـ 14 عامًا، فلا تختلف كثيرًا في الألم، وإن اختلفت في التفاصيل، وقالت: “منذ طفولتي يتنمرون على شكلي ويسخرون علانية، يلتقطون لي صورًا خلسة ويضحكون، فقدت ثقتي بنفسي، وبدأت رحلة اضطرابات الأكل: امتناع تام ثم نهم شديد”.
وأضافت: “لم أعد أعرف نفسي، لكن في جلسة دعم جماعي، اكتشفت أن الخطأ ليس في شكلي، بل في نظرة المجتمع القاسية، هناك فقط وجدت صوتي وقررت ألا أسمح لأحد بإسكاته مجددًا”.
من جانبه، علق الدكتور عمرو يسري، استشاري الطب النفسي، على هذا قائلًا: “آثار التنمر لا تُمحى بسهولة، قد تختفي من الخارج، لكن الجراح النفسية تبقى، تؤثر على ثقته في ذاته، وتدفعه إلى عزلة أو عداء مع نفسه والعالم، هي جراح صامتة، لكنها عميقة”.
أما “ياسين”، 17 عامًا، فكان عليه أن يواجه التنمر داخل أسرته أيضًا، وروى التجربة التي مرَّ بها، قائلًا: “لم يكتفِ زملائي، بل أخي نفسه كان يسخر مني باستمرار، يقارنني بنفسه، ويحرجني أمام الآخرين، حتى المعلمون لم ينادوني باسمي الصحيح، والطلاب قلدوهم، لم أشكُ قط، بل كنت أكتب في دفتر قديم، ثم جاء يوم، وفي مركز الشباب، شجعني أصدقائي على الحديث، ووقفت ألقي “مونولوج” عن الطفل الذي لم يسمعه أحد، حينها فقط أدركت أنني لست المشكلة، بل التنمر هو أصل المشكلة”.
كذلك عاشت “لارا”، 15 عامًا، تجربة قاسية مع التنمر الإلكتروني، بدأت بثقة وانتهت بصدمة.
وقالت: “أرسلت صورة لصديقة، فخانَت الثقة، وعدّلتها ونشرتها مع وجود كلمات مسيئة، وتناقلها الجميع، أصبحت حديث “جروب المدرسة” وإنستجرام، حين دخلت الفصل، حتى المعلمة قالت لي: كان عليكِ أن تكوني أكثر حذرًا، وكأنني المخطئة، انسحبت، وأغلقت بابي، وامتنعت عن الطعام، اصطحبتني أمي لاحقًا إلى مركز تابع للمجلس القومي للطفولة، هناك فقط شعرت بأن أحدًا يسمعني من دون إدانة، لستُ كما كنت، لكنني الآن أعلم أن الخطأ ليس فيّ”.
المواجهة تبدأ بالتوعية
يرى محمد ممدوح، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، أن مواجهة التنمر تبدأ بالاعتراف به كجريمة نفسية واجتماعية، وليس كمشكلة سلوكية فردية.
ويضيف: “دور المدرسة يجب ألا يقتصر على المعاقبة، بل يمتد إلى التوعية، وتدريب الطلاب على قبول الاختلاف، وتقديم الدعم النفسي الفوري لمن يتعرضون للأذى”.
كما يشدد الدكتور نور أسامة، على أهمية تدريب المعلمين، وتفعيل دور الأخصائي النفسي في المدارس، وتبني مناهج تعليمية تزرع قيم الاحترام والتسامح.
ويضيف: “حينما يعلم الطفل منذ الصغر أن الاختلاف ليس عيبًا، بل ميزة، نكون قد وضعنا أول حجر في بناء جيل لا يعرف التنمر”.
وأوضح الدكتور عمرو يسري: “الصمت على التنمر يعد مشاركة فيه، والمجتمع الذي يبرر الإيذاء أو يسكت عنه، يكرّس ثقافة العنف”، مؤكدًا أن العلاج لا يكون فقط للضحايا، بل يجب أن يمتد أيضًا للمتنمرين، فهم في كثير من الأحيان يعانون من مشاكل نفسية أو سلوكية أو تاريخ من العنف في منازلهم.
