أحلام صغيرة على أكتاف متعَبة

«مراهقون يحاربون الفقر بسلاح أحلامهم فى شوارع العاصمة»

•فيتشر: شيماء عبد الباقي – وسام محمد

في الوقت الذي ينشغل فيه أطفال كثيرون بالألعاب وشاشات الهواتف، هناك وجوه أخرى تختار طريقًا مختلفًا ،لا تُرغِمهم الحياة عليه فقط ، بل يختارونه بإصرار ، حملوا همّ الحياة مبكرًا وقرروا أن يواجهوا الواقع بسواعدهم الصغيرة وأحلامهم الكبيرة، وفي شوارع القاهرة الصاخبة وبين أزقة الأسواق تتقاطع حكايات عبدالرحمن شعبان، ورجب فولي، وعبدالرحمن محمد، واندورا ممدوح ، أربعة قصص، لكنهم يشتركون في ملامح واحدة وهى الجدّ، والتحمّل، والإيمان بأن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع.

في وسط شوارع القاهرة، حيث تمتزج رائحة السكر الساخن بحكايات الكفاح يقف عبدالرحمن شعبان صاحب الاربعة عشرة عامًا بجانب صديقه رجب فولي الذي يكبره بثلاثة سنوات، صداقه جمعتها الايام وظروف العمل، لم تأتِ بهما الصدفة ، بل الحاجة والطموح، من قرى المنيا جاءا إلى العاصمة ليسا للسياحة أو الترفيه، بل بحثًا عن رزقٍ يساعدهما على مواصلة التعليم فبالنسبة لهما ليست مجرد مدينة للعمل، بل محطة مؤقتة بين مرحلتين في حياتهما، يقضيان شهورًا طويلة في العاصمة يجوبان شوارعها حاملين بين أيديهم صناديق ممتلئة بالزلابية الذهبية حيث تتشابك أصواتهما مع صوت الشارع .

يدرس عبدالرحمن، بالصف الثاني الإعدادي، يبدأ يومه وصديقه في محل شقيقه، حيث تُجهّز الزلابية الطازجة يحملها في صناديق صغيرة، و ينطلقان بها عبر شوارع المدينة، يعرضونها بابتسامة لا تُكلف شيئًا لكنها تفتح أبواب الرزق ويستغلون كل لحظة تحت الشمس من أجل جمع ما يسد احتياجات يومهما، يقاس يومهم بعدد القطع التي باعوها حتى غروب الشمس.

عبدالرحمن يحمل في قلبه حلمًا بسيطًا ولكن كبير في نظره، فأقصي طموحه أن يمتلك عجلة، وسيلة تمنحه الحرية والحركة ويتمنى أن يكمل دراسته فهو في الصف الثاني الإعدادي و أن يصبح طبيبًا ينقذ الأرواح ، أما رجب فهو ابن الشارع والعمل منذ أن كان في العاشرة من عمره جرّب كل شيء تقريبًا من المطاعم إلى الورش، ومن محلات الجزارة إلى بيع الفاكهة ،ويدرس بالصف الثالث الثانوي الصناعي وحلمه أن يصبح ضابطًا ،لا لأن المهنة وحدها نبيلة، بل لأنه عاش قسوة الشارع، ويأمل أن يكون يومًا من يمد يده للضعفاء.

من المدرسة للتوكتوك

لم تختلف قصتهما، عن معانا عبد الرحمن محمد، 12 سنة ، الذي اختار طريقا مختلفا عن أقرانه منذ كان طفلا في التاسعة، لم تُمهله الحياة فرصة ليعيش طفولته كاملة فقد سُرقت منه ومسؤولياته كبرت معه ، وقرر أن يكون سندًا لوالده في مواجهة أعباء الحياة رغم صغر سنه في مشهد يعكس تحمله الكامل للمسئولية ، يجوب عبدالرحمن شوارع منطقته على متن “توك توك” صغير، يوميا من السابعة صباحًا حتى الثالثة عصرًا، يعمل بلا كلل حتى يجمع 200 جنيه، يقتسمها مع والدته، مساهمة منه في مصاريف البيت، فهو يعمل في إجازة منتصف العام حتى يدبر مصاريف دراسته طوال الترم بحيث لا يصبح عبء على والده ،فهو لا يرى في الأمر عبئًا، بل يراه واجبًا ومسؤولية ، ولا يرى أيضًا أن العمل يقف حائلًا بينه وبين حلمه، فحلمه الأكبر دخوله الثانوية العامة ، ويؤمن أن كفاحه الآن هو مفتاح مستقبله ” نفسي أدخل ثانوي عام، وأحقق حلمي بإني أكون حاجة كبيرة ” ويقولها بثقة ، ثم يضيف بابتسامة عريضة ” نفسي أشتري BMW بفلوسي أنا، مش بفلوس أبويا… أنا مش حِمل عليه دلوقتي، هخليه يشتريلي عربية لما أكبر؟” ، ولا يخشى عبد الرحمن التحديات، ويجد في تشجيع والدته المستمر حماسا ودافعا للاستمرار.

بين السوق والمدرسة

أما اندورا ممدوح  فتى لم ينتظر أن تتحسن الظروف ، فابين طاولات البيع ومقاعد الدراسة يتنقّل يوميًا بين عالمين متناقضين: المدرسة حيث الطموح، والسوق حيث العمل والرزق ، يدرس في الصف الثاني الثانوي، الشعبة الأدبية، يبدأ يومه بين الكتب والدفاتر، يصغي لشرح المعلمين ويلاحق حلمه كأي طالب آخر. لكن ما إن يرن جرس نهاية اليوم الدراسي، حتى يخلع زيه المدرسي ويستعد ليوم آخر يبدأ من جديد في السوق، حيث ينتظره الميزان، والزبائن، وصناديق الخضروات والفاكهة.

اندورا ليس مجرد “شيّال”، كما يصفه البعض، بل شاب قرر منذ ثلاث سنوات أن يتحمل المسؤولية بجانب والده. يعمل مع أقاربه، يتقاضى أجرًا يوميًا بحسب عدد الساعات، يقتطع منه جزءًا ليساهم في نفقات البيت، ويحتفظ بالباقي ليغطي احتياجاته الشخصية ، قرر أن يعمل وهو فى عمر الـ3 سنوات حتى يعاون والده في كل صغيرة وكبيرة، وهو الآن في السابعة عشرة من عمره. اندروا : “الشغل مفيهوش كسوف” ، يقولها بثقة فبين تعاملاته اليومية مع الزبائن تعلّم الصبر والذكاء الاجتماعي وأهمية الاعتماد على النفس لم ينتظر أن يأتيه الدعم من أحد، بل بنى نفسه خطوة بخطوة وواجه التحديات بابتسامة لا تفارقه.

Back To Top