ابن الجوزي ورؤيته التربوية

• فيتشر- محمد رجب

مرحلة المراهقة تُعد من أكثر الفترات حساسية في حياة الإنسان، إذ يبدأ الفرد فيها في رسم ملامح شخصيته، ويواجه لأول مرة أسئلة كبيرة تتعلق بالهوية، والغاية، والمستقبل. تتغير مشاعره بسرعة، وتتأرجح قناعاته بين الشك واليقين، ويصبح في مواجهة مباشرة مع رغباته، ومع ما يفرضه عليه المجتمع من قواعد وتوقعات. لذلك، كان من الطبيعي أن يحظى هذا العمر باهتمام خاص من قِبل التربية الإسلامية، التي لم تتعامل مع المراهقين باعتبارهم مصدر قلق أو خطأ محتمل، بل بوصفهم طاقة عظيمة تحتاج إلى توجيه، وعقولًا تتفتح وتحتاج إلى من ينير لها الطريق بلغة تفهمها، وبمنهج يوازن بين الشدة واللين.

لكن، كيف يمكن أن نخاطب مراهقًا في هذه المرحلة الحساسة؟ هل نوجّهه بالقوة، أم نصادقه بالفهم؟ يبدو أن هذا السؤال لم يكن غائبًا عن فكر العلماء المسلمين الأوائل. بل إن الإمام عبد الرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي، الفقيه والمحدث الشهير في القرن السادس الهجري، قدّم نموذجًا إنسانيًا عميقًا في هذا المجال، لا يزال صداه حاضرًا حتى اليوم.

في كتابه الأشهر “صيد الخاطر”، لا يظهر ابن الجوزي بوصفه عالِمًا فقط، بل كصديق حقيقي لمن يمرون بصراعات داخلية. يخاطب النفس بلغة قريبة من القلب، لا تخلو من الصرامة، لكنها محمّلة بالتعاطف. يكتب خواطره، لا كمن يفرض نظريات، بل كمن يدوّن تجربة شخصية مليئة بالمكابدة والمجاهدة.

لم يتعامل ابن الجوزي مع المراهق كحالة يجب السيطرة عليها، بل كنفس حيّة في طور التشكّل. أدرك أن هذه المرحلة لا تخلو من الحيرة، والتساؤل، والرغبة في الاستقلال، والانجذاب نحو الشهوات. لكنه لم يعتبر ذلك تبريرًا للتمرد، بل بوابة لفهم عميق يقود إلى النصح الصادق.

وفي هذا السياق، يوجّه حديثه إلى الشباب، لا ليحاكمهم أو يحمّلهم اللوم، بل ليفهمهم. يعترف بأنه مثلهم، يضعف كما يضعفون، ويقع كما يقعون، لكنه لا يكفّ عن المحاولة. وهذا ما يجعل كلماته أكثر صدقًا، لأنها تأتي من واقع التجربة لا من أبراج الوعظ.

ينبّه ابن الجوزي إلى أن الشهوة والهوى من أعظم التحديات التي تواجه الإنسان، لا سيما في مرحلة الشباب. يكتب: “الشهوة خدّاعة، والهوى قاطع لطريق النجاة، فمن لم يقاومه في شبابه، سقط في شيخوخته.” كلمات لا تحتمل التأويل، لكنها تحفّز على العمل. بالنسبة له، المراهقة ليست مجرد مرحلة مؤقتة، بل تأسيس لما بعدها، ووضع لأسس شخصية الإنسان المستقبلية.

اللافت أن ابن الجوزي لا يبرر الانحراف، لكنه يفهم دوافعه. يعي تمامًا ما يمر به المراهق من رغبة في التحرر، وشهوة متقدة، وحيرة فكرية، فيتخذ من هذا الفهم جسرًا للوصول إلى القلب والعقل معًا، لا وسيلة لرفع المسؤولية.

كان الإمام يولي أهمية كبرى للصحبة، ويرى أن الرفيق يمكن أن يكون بابًا إلى النور، أو طريقًا إلى الانحدار. يحذر من مخالطة من اعتادوا اللهو والتفاهة، ويشجع على استثمار الوقت في العلم، والعبادة، والتفكر. فكل لحظة تمر، من وجهة نظره، إما خطوة نحو النضج، أو تراجع في دروب التيه.

ربما يظن البعض أن العودة إلى ابن الجوزي مجرد رجوع إلى الماضي، لكنها في الحقيقة لقاء حيّ مع عقل كبير فهم النفس البشرية قبل أن تُصاغ لها علوم كاملة. كلماته لا تخص زمنًا بعينه، بل تخاطب كل من يبحث عن النور في عتمة المرحلة.

في زمن تعجّ فيه النصائح الجاهزة، وتفتقد كثير من الخطابات إلى الصدق أو الفهم، تبدو كلمات ابن الجوزي أشبه بنداء قديم في أذن شاب حديث: “لا بأس أن تسقط، لكن الأهم أن تنهض.”

ايتخبط كثير من المراهقين في عالم متسارع ومتغير، تبدو العودة إلى صوت مثل صوت ابن الجوزي أمرًا ملحًا. ليس لأنه يمثل التراث فقط، بل لأنه كتب بصدق عن النفس، وللنفس. والمراهقين اليوم في حاجة  إلى من يخاطبهم بهذه اللغة لا لغة التأنيب، بل لغة المشاركة، لا لغة الحكم، بل لغة الفهم.

فكلماته كانت ولا تزال، بمثابة يد حانية تمتد إلى كل شاب يواجه صراعًا داخليًا: “أنت لست وحدك، وأنا أيضًا واجهت ما تواجهه… فلنمضِ معًا في الطريق.”

Back To Top